نبيلة صالح: المائدة الفلسطينية والشتات | Atlas Rommana | أطلس رمانة

نبيلة صالح: المائدة الفلسطينية والشتات

 


في كل منزل فلسطيني، وعلى كل مائدة فلسطينية، نجد أطباقاً تحمل تراثاً متنوعاً يسجل دورات هذه الأرض عبر التاريخ، بحيث ساعدت جغرافيا فلسطين الممتدة على طول ساحلها المتوسطي، وسهولها الخضراء، وجبالها الشامخة ووديانها وينابعها الجارية على خلق تاريخ زراعي ومنه تاريخ طبخ مميز ومتجذر.

وإذ يكرر نتنياهو مرات عديدة في مقابلته مع جوردن بيترسون في وصف أرض فلسطين عند مجيئهم إليها: "أرض قاحلة، مهدرة، جرداء، صحراء، خرابة" إلا أن الجغرافيا والتاريخ يكذبان هذه الادعاءات المغرضة. 

لم تكن المائدة الفلسطينية يوما مجرد وجبات غذائية، وعدا كونها أسلوب حياة راقي ينّم عن حضارة ضاربة في التاريخ إلا أنها تحولت وبعد 1948 إلى رمز للهوية الفلسطينية.

 قدمت تجربة اللجوء والشتات للمائدة الفلسطينية تحديات لا يمكن الوقوف عندنا من دون الخوض في السياق العام للفلسطيني الذي يحن إلى الأرض وإلى زرع الأرض.

 

الانتهاكات الإسرائيلية للثقافة الغذائية الفلسطينية:

يغلب الطابع الزراعي على ديمغرافيا فلسطين بسبب خضوبة أراضيها ووجود أشجار زيتونيها قبل ألاف السنين، الفلسطيني في السهل أو في الجبل أو على الساحل يعرف خصوصية أرضه كما يعرف ظهر كفه، يحصد ما يزرع، ويأكل ما يحصد، وبالتالي شكلت الطبيعة والحضارات التي سكنت هذه الأرض تميزاً خاصاً وعدد من الأكلات لا وجود لها في العالم إلا على هذه الأرض، ولا يمكن لأحد أن ينسبها لنفسه لان مكوناتها تخرج فقط من ترابها الطاهر.

غير أن إسرائيل لم تكتف بتدمير الدولة الفلسطينية فقط، ولم يشف غليلها التهجير ومصادرة الأرض والحقل الأخضر، بل صادرت أيضا مطبخه بعد أن قادمت بتشريده بعيداُ عنها.

 تجسد الهدف من الاستطان الصهيوني الغاشم في استبدال الشعب الفلسطيني والاستيلاء على ثقافته والسعي إلى زرع النسيان بل وإعادة كتابة الماضي من خلال تهميش العنصر الغذائي العربي الفلسطيني، وطمسه، ثم إعادة تفسيره مرة أخرى على أنه ينتمي إلى المستوطنين الصهاينة، أو على أنه تم إحضاره إلى إسرائيل عن طريق اليهود الشرقيين. بمعنى آخر، كانت الثقافة الغذائية الإسرائيلية "تحتاج" إلى الثقافة العربية الفلسطينية كمصدر للتقليد والتوطين، لكنها في الوقت نفسه كانت ترغب في نزع الطابع الفلسطيني عنها، جنبًا إلى جنب مع الفكرة العامة المتمثلة في دولة يهودية منفصلة - حسب دراسة رانتا ومندل 2014.

 

قوانين تمنع قطف الزعتر والعكوب:

 تستمر المحاولات الإسرائيلية في طمس هوية الفلسطيني من خلال عزله عن أرضه ونشاطه الزراعي وتغيير نمط حياته، وتتمثل في العديد من القوانين الإسرائيلية مثل قانون حظر قطف الزعتر والعكوب، وقانون العنزة السوداء الذي يحظر تربية الماعز الأسود المشهور خاصة في منطقة النقب، كل هذا تحت ذريعة فضفاضة تتمثل في "أسباب بيئية".

 كما لا يزال الانتهاك الإسرائيلي ضد تراث الطهي الفلسطيني قائم من خلال محاولات إعادة كتابة التاريخ وهيكلة الوعي الجمعي العالمي عن طريق المحو المتعمد للهوية الفلسطينية والاستيلاء على الطعام الفلسطيني وذلك بوضع وسم "المطبخ الإسرائيلي التقليدي" عبر سلسلة من السلوكيات الممنهجة مثل  تضمين الأطعمة العربية الفلسطينية في كتب الطبخ الإسرائيلية، وعرضها في الإعلانات والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات العالمية، وتقديم الطهاة الإسرائيليون فعاليات ضخمة ينسبون فيها المطبخ الفلسطيني لهم وينكرون أصولها، أو ببساطة غرز علم إسرائيل على كشك حمص وفلافل في مدينة نيويورك مثلاً. وما هذه محاولات لإزالة الإنسان الفلسطيني عبر محو هويته، إلا نكران أصول تراث الطهي الفلسطيني الأصلية مما يعني بالضرورة نكران وجود الإنسان الفلسطيني.

 

تقاليد الأكل وتنوع الأكلات الفلسطينية:

روح التشارك هي التيمة المسيطرة على نشاط الأكل الفلسطيني،  إذ تتضمن تجربة الطهي الطابع الجماعي بدءاً بجمع المكونات والتي عادة ما يكون نشاطاً جماعياً تشاركياً مثل قطف الزيتون، وحصد المحاصيل، وإشعال النار، وانتهاءا بالأكل الجماعي الذي تتشارك فيه العائلة بالأكل من طبق واحد مثل المقلوبة والمفتول.. تمتد هذه الطبيعة الجماعية لتجربة الأكل لحد يومنا هذا، فروح التشارك والعائلة حاضرة وبقوة خاصة في التجمعات العائلية والمناسبات الاجتماعية..

 تاريخياً؛ تربعت المرأة الفلسطينية على عرش المطبخ الفلسطيني وطورت أغلب الوصفات بطبيعة دورها الاجتماعي الذي كان يناولها زمام شؤون الطهي، كانت ومازالت المرأة الفلسطينية تتمتع بالدور الأقوى في تناقل الموروث الغذائي عبر الأجيال سواء عبر تعليم أفراد عائلاتهن الوصفات والطرق الأصلية للطهي من خلال المشاهدة المباشرة أو التناقل المحكي، بذلك فهن ينقلون القيم الثقافية والقصص والذكريات، مما يخلق ارتباطًا عميقًا بتراثهم. وأرضهم.

 يجمع المطبخ الفلسطيني بين البساطة والتعقيد والابداع، فاستطاع الفلسطيني إيجاد أطباق متنوعة من مكونات بسيطة، فتكمن البساطة غالباً من المكونات والمنتجات المحلية المتوفرة في أراضيهم، ويكمن الابداع في تطويع غالب النباتات في محيطهم إلى أكلات غنية، ويكمن التعقيد في اختلاف طرق الطهي ومزج المكونات المختلفة مع بعضها لإنتاج أطباق متنوعة. يمكننا أيضاً القول إن المطبخ الفلسطيني هو الملاذ المثالي لأصحاب نمط الحياة النباتي لاعتماده بشكل كبير على مكونات نباتية ومرونة تحويل الأطباق غير النباتية إلى نباتية بسهولة.

 ارتباط الفلسطيني بأرضه لم يقتصر على ما يزرع ويحصد، ولكن ارتباطه الوثيق بها جعله يلقي نظرة أقرب على خيراتها البرية، فمن خلال قدرة استثنائية يمكن تحويل أي نبتة أو عشبة خرجت من الأرض إلى عشاء فلسطيني لذيذ في آخر يوم طويل وشاق.

 لم يقوَ نبات تملؤه الأشواك مثل العكوب أن يمنع الفلسطيني من أن يحوله لعدة أطباق شهية ومحببة لدى الكثيرين؛ ولم يقدر نبات سام مثل الليف من أن  يعيق النساء الفلسطينيات من إيجاد طرق لمعالجته وطهيه لينتهي به الأمر على موائد أسرهن بل وطالت نفس العقلية الفلسطينية تحويل نبات القريص وهو أوراق تغطيها الأشواك إلى طبق شهي. قامت النساء بإعداد وجبات متكاملة من نباتات وأعشاب مثل الهندباء، البقلة، والحميض، والخبيزة، والسلق واللسينة والهليون البري.. وعليه يدل هذا السلوك في الطهي والأكل على قدرة وعقلية الفلسطيني المصّرة والمثابرة، فكل أكلة تروي قصة صمود وتكييف وبقاء، على الرغم من أن الانفصال الجغرافي أدى إلى الانفصال عن تجربة الطهي الأصيلة وانقراض الكثير من هذه الأطباق.

 

لكل مدينة فلسطينية أكلة شعبية خاصة:

ارتبطت خصوصية الأطباق المتنوعة في فلسطين باختلاف طبيعة المناطق واختلاف أعمال وحرف سكان هذه المناطق واختلاف أنماط معيشتهم، فعلى سبيل المثال، تتميز مدينة الخليل بحرفة صنع الفخار الذي أدى إلى اشتهارها بأكلة"القدرة" وهو طبق يتكون من لحم وأرز، ولعل ما يجعله مميزاً ويكسبه طعماً مختلفاً هو "القدر" الفخاري الذي يطهى فيه.

 أما "الصيادية" التي تتكون من الأرز والسمك هي أكلة يختص بها أهل  الساحل بطبيعة الحال،  في حين قام  أهل القرى الجبلية بمزج خبز فرن الطابون المشتهرين به مع زيت الزيتون خاصة في موسم حصاد الزيتون لتزويدنا بأكلة "المسخن".

 أما في غزة؛ فيأخذ الذوق والمذاق منحى مختلف أكثر عن باقي فلسطين، ذلك أنهم يشتهرون بالسماقية والفقاعية والرمانية التي قد لا يعرفها بقية أهل فلسطين، ولعل أكثر ما يميز المائدة الغزية هو حضور المذاق الحار بقوة، فلا تخلوا أي مائدة غزية من الفلفل الأحمر المخروط، يقال أن الميل للمذاق الحار يرجع إلى أن أهل غزة تعرضوا إلى توابل وبهارات لاذعة أكثر بسبب كونها طريق تجارية.

في حين تنتشر في رفح وخانيونس أكلة لا تعرفها باقي مناطق فلسطين ما قبل 1948 قاطبةً، وهي "اللصيمة" أو "القرصة" أو "فت العجر" وهي أكلة مثيرة للاهتمام يرجع أصلها لسيناء وتتكون من مزيج من العجين المخبوز في فحم مشتعل وثمار بطيخ غير ناضجة "عجر" وخضراوات أخرى.

 

المطبخ الفلسطيني والشتات..  موائد للصمود:

"تمتد المائدة الفلسطينية على جغرافيتنا بأكملها، من جبال الجليل إلى أودية الجنوب، ومن ساحل يافا وصولاً إلى الضفة الغربية. إنها منتشرة في جميع أنحاء العالم وتم بناؤها من ذكريات الوقت الذي كنا نعيش فيه على نفس الأرض،. وعلى الرغم من ظروفنا السياسية وتشتتنا العالمي، فإن ما يربط جميع الموائد الفلسطينية هو أكثر من مجرد الطعام اللذيذ، "إنها فكرة "الوطن"، وروح الكرم، وأهمية الأسرة، وقيمة التقريب بين الناس"، كتبت الكاتبة والطاهية الفلسطينية ريم قسيس في كتابها "المائدة الفلسطينية".

 بالنسبة للفلسطينيين في الشتات، تقوم الذاكرة بترسيخ الوعي الوطني، وتجسيد النضالات المستمرة من أجل الشرعية الفلسطينية على نطاق عالمي. داخل جميع مجتمعات الشتات، ويعد الطبخ وطرق إنتاجه وسيلة أساسية للاحتفاظ بالمعرفة الثقافية.، فيتم إعادة إنتاج المطبخ الفلسطيني في الشتات شكلًا من أشكال الصمود، وهو اتصال طويل الأمد وبعيد المدى بفلسطين ومقاومة يومية ضد الطمس الثقافي الرمزي، تتجسد الذاكرة في شكل المقاومة من خلال إعادة إنتاج الثقافة الغذائية الفلسطينية، وتناقل التقاليد والذاكرة عبر الأجيال.

 ممارسة تراث الطهي في مجتمعات الشتات الفلسطينية يمثل وسيلة لتأكيد الهوية في مواجهة النزوح والتشريد وهي شهادة صريحة على الصمود والمرونة خاصة في وجه الأزمات السياسية والإنسانية التي مر بها الشعب الفلسطيني على مّر السنين ولايزال يمر بها حتى يومنا هذا.

 

للتواصل مع نبيلة: https://www.facebook.com/share/yKVaPbDW7gotpVKE/?mibextid=WaXdOe